الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

لطالما آلمني




كيف أنقل الإحساس إلى الورق ... كيف أجعله في صدور الآخرين ولو لحظة ليفهموا ما أتحدث عنه ... بدا ذلك صعباً وبعيد المنال ... رغم أنني كتبت كل كلمة وصفٍ تبادرت إلى ذهني دون تشذيب أو تهذيب ... وندمت بعدها مباشرةً إذ لم يكترث أحدٌ بالتوقف لحظة لتأمل كلماتي ... وأكاد أعتاد على ذلك ... والشخص المعني غائب ... كم أكرهك إيتها التكنولوجيا ... يا من دمرتي البساطة وجمالها ... وسهلتِ الصعوبات فقتلتي مُرَّ لسعاتها اللذيذة ...

 

صباح اليوم جاءتني إحدى تلك اللحظات الأكثر أسراً وسحراً ... فتحدث فيها معجزة الطيران عبر الوقت والزمان مُغيبة ً اللحظة الحالية في الظلام ولاغيةً وجودها للحظات قصيرة آسرة ... وكأنها تريد إحياء شيء مات أو يكاد يموت ... ولكنه بالتأكيد شيءٌ منسي ...

 

تأتي هذه اللحظة دون سابق إنذار ... مشعلة صورة من ذكريات الماضي المنسي ... تلمع الصورة أمام العينين للحظة لتجذب الانتباه ... فيكون القرار لك .. إما أن تستلم لها أم تشيح بطرفك عنها ... فإن استسلمت ... انتشلتك من حيث كنت وراحت بك إلى زمان تلك الصورة محييةً فيك كل تفاصيلها ... فتلفح وجهك نسمات ذلك اليوم ويملأ أنفك عبق المكان ورائحة الطعام والقهوة التي كنت تحتسيها ... تشعر حينها أنك عدت إلى ذلك اليوم وكل شيء بعده كان مجرد حلم لم يحدث منه شيء ... وعندما تحتويك الذكرى وتتشربها روحك ... تتلاشى .. وينقشع الظلام ... فإذا بك ترى وجهك الحزين والمذهول في المرآة ... حيث كنت تقف قبل أن يصيبك سحر تلك اللحظة ... وها أنت تمد يدك بعد الجمود محاولاً الإمساك بتلك الذكرى ... ولكن أنى لك وقد تبخرت في الهواء ... حينها تنظر إلى نفسك وأنت تدافع عبراتك وقد فقدت ما كنت تظنه بسيطاً ولكنه كان سعادة حياتك كلها !

تبدو لي هذه اللحظات كبوابةٍ إن تمكنت من القفز عبرها ... ستنقلني إلى العالم الذي لطالما حلمت به ... إلى عالم يعجز اللسان عن وصفه ... إلى عالم بعيد عن الواقع وقبحه وآلامه ... ولكن كل ما رأيت لمحةً من تلك البوابة يتجمد حتى الدم في عروقي ... فلا أملك الحراك حتى في جفنا عيناي ... وينتابني رعبٌ ممتزج بفرحة صغيرة مؤقتة ... تُنتَزَعُ مني بغياب البوابة تاركةً دموعاً يتيمة وجسداً منزوع الفؤاد ...

 

أطأطئ رأسي للحظة ثم أعود لنشر مسحوق التجميل على خدي متظاهرةً بأن شيئاً لم يكن وأن روتين الحياة مازال ملكاً على رؤوسنا ... ولكني لا أنفك أسحب المنديل تلو الآخر لبقية اليوم ... وإن سئلت ... ألقيت اللوم على غبار الجو أو زكامٍ وشيك...

 

لطالما آلمني أن أحداً لا يفهم هذا الإحساس ... وأن علينا أن نواصل التجاهل وتكبير العقول فقط لأننا نعتبر راشدون ... ولأن مسؤولياتنا تتضاعف بمرور كل يوم جديد في حياتنا ...

أحياناً ... أتمنى لو أني لم أتغرب من أجل ورقة ... ففقدت نفسي ثمناً لها ...

سأعدُ نفسي ... كما فعلت في المرة السابقة ... "سأقفز في المرة المقبلة !"

الخميس، 14 أغسطس 2014

عصفور




هبط العصفور الصغير على الأرض بين الحشائش فاغراً منقاره وتلفت في كل الاتجاهات باحثاً عن لمعان قطرة ماء تنقذ جسده الصغير من سياط الشمس الحارقة ... ثم راح ينقر الأرض بمنقاره هنا وهناك ... كما كان حال عدة عصافير صغيرة أخرى ... كانت الحشائش قصيرة للغاية بالكاد تستر أرجل العصافير الصغيرة ... باستثناء بعض أوراق الحشائش الرفيعة التي تمردت وطالت رقابها فوق باقي أوراق الحشائش متفوقةً عليها ... ورغم الحرارة الشديدة إلا أن هذه الأوراق من الحشائش ساعدها تمردها على الحفاظ على لونها الأخضر الغني على عكس باقي الحشائش التي اكتفت بأن تكون خضراء اللون وإن كان قد أصاب لونها شيئاً من البهوت ... اجتمعت أربعة عصافير عند البقعة التي تكثر فيها الحشائش المتمردة ... فلونها الغني اللامع في ضوء الشمس أعطاها أملاً بإمكانية القضاء على العطش رغم السياط الحارقة ... فراحت تنقر بمناقيرها الصغيرة حولها بحثاً عن الخير الذي تمتلكه هذه الحشائش فتنال شيئاً منه ... كانت العصافير تأمل أن تروي نفسها من رطوبة قد تجدها في التربة ...

 

أملت لو كانت في سيارتي قنينة ماء أسكب بعضها لهذه العصافير فترتوي وتدوم خضرة الحشائش ... أضاء اللون الأخضر في إشارة المرور وزمجرت السيارات ... فأدرت رأسي عن تلك البقعة الخضراء وعن العصافير القافزة منطلقةً بسيارتي ...

 

وقف النور عند الرصيف يتأمل سيارتي الراحلة بعد أن ترجل منها خفية ... ثم مشى بهدوء إلى البقعة الخضراء ولم تعره العصافير أي اهتمام ... ثم رفع يده اليمنى ناظراً إليها وكأنه يحمل شيئاً فيها ... جلس القرفصاء ... وأنزل يده إلى الأرض واضعاً ما كان فيها ... فإذا بإناء ينضح بالماء يظهر لامعاً مع تمايل صفحة الماء تحت أشعة الشمس ... فتقافزت العصافير إليه مغرقةً مناقيرها الصغيرة فيه ... فابتسم النور ... ثم رفعت العصافير رؤوسها إلى السماء مبتلعةً الماء الذي حملته في مناقيرها وكأنها تحمد الله على هذه النعمة التي أنقذتها ... وراحت تغرد وتتدافع لتشرب أكثر قافرةً هنا وهناك ... وانسكب الماء بفعل قفزاتها ... لتحني الحشائش رؤوسها وتمد جذورها إلى الماء مرتويةً منه ... فيزداد لمعانها وغنى خضرتها ... رفع النور رأسه ناظراً إلى حيث انطلقت سيارتي وابتسم...

 

ابتسمت وأنا أطفئ سيارتي وأترجل منها .. متمنيةً لو تتحقق الأحلام !


الأربعاء، 13 أغسطس 2014

تلك الأنا




أعلم أننا جميعا نعلم هذا وأننا جميعا نمر به ... أو هكذا شكلت لي اعتقاداتي ... هل يمكن أنهم لا يعرفون ما أتحدث عنه ؟ .. ولكن هل هذا مهم على أية حال؟ .. لم أعد أدري !

 

كم تقلبت أحوالي وكم تقلبت معها .. كم علوت وابتسامة الحياة تملأ روحي .. وكم هويت وطنين الارتطام يعصف بعقلي وجوارحي .. وها أنا مازلت هنا ! .... ولكن إن إلتقيت بإحدى الأنا التي كنتها فلن نعرف بعضنا .. وستستنكرني دون شك !

 

إحدى تلك الأنا ... تكثر من مراودتي هذه الأيام .. ولولا انشغالاتي الكثيرة والمطالب المُشَتِتة لاستجبت لها ولجرفت بها ... قد لا تعرفني هي إن إلتقينا لكني باكيةٌ لا محالة ... كلما راودتني تزلزل ثباتي ... وتجري قشعريرة في جسدي ويكثر سرحان عيناي ...

أنا لا أحب هذا ... من منا يحب ارتجاف الأرض تحت قدميه !؟ ... ولكن من منا لا يخفي شوقه لغزارة أمطارٍ تعيق حركة السير ليوم واحد؟

لم تكن تلك الأنا مثالية على الإطلاق .. كانت تائهة وحائرة .. وتبحث طوال الوقت ... تبحث ... ولم تكن التوافه تلفت انتباهها ... ما يعجبني فيها أنها كانت تسعى ... ولا تكترث بالفضوليين ... كانت تتمتع بعزيمة وإصرار ... يزيد من صلابتهما عنادها الذي عادةً ما يكون غير مبرر ... كانت ميالة للمغامرة فتلقي بنفسها دون أن تلتفت لأي دراسات أولية أو تجارب سابقة ... كانت تتحرك صحيح أنها لم تكن تسابق الريح ولكنها كانت تهرول ومستعدة للجري إن وجدت الفرصة .. وأجمل ما فيها أنها لم تكن تقف على الأرض بكامل قدميها ... بل كانت تلمسها لمساً بأحد أصابع قدمها ...

أكاد أعود إليها فأندمج مع روحها وزمانها !

 

كم أفتقد الطيران ... ويفجر آهاتي ضياع طريقه مني .. وكم يمزق روحي إلتصاقي السهل بالأرض ... تشابكت الخيوط في يدي وأكاد أيأس من فكها ...

ملت النافذة تحديقي الطويل بزجاجها وباتت تحلم بقدمين تهرب بهما ... ولكنها حبيسة خلو وجهي وصمت عيناي!


الخميس، 24 يوليو 2014

هدوء صباح





الأربعاء  02/07/2014
هدوٌ غريب لبسه صباح هذا اليوم ... مشيت بالصمت نفسه الذي يكسو كل صباح من صباحات حياتي ونزلت السلم .. وأنا أرى نفسي أنزل سلماً مختلفاً قبل سنين طويلة رحلت ... والهدوء هو نفس الهدوء ... والفرق شاسع في الروح ... ليتنا نعود للأيام الماضية ... نزورها ساعاتٍ قليلة لنروي ضمأ الحنين الذي يستبد في الروح .. ليتنا نزورها ولو في الحلم !
بنفس الهدوء كنت أنزل ذلك السلم الضيق ... ولم يكن ضيقاً على جسدي الصغير في ذلك الوقت ... تنتقل قدماي الحافيتين بخفة من درجة إلى أخرى متعجلة لبدء اليوم ... كل صباح ننزل إلى الغرفة الداخلية .. الغرفة الزرقاء بعد أن غيروا فرشها لاحقاً ... السفرة ممدودة على الأرض ... (دله) شاي الحليب في (الصنية) مع الأكواب الصغيرة المصفوفة بجانب بعضها ... (صفرية) الخبز الزرقاء ... والتي دائماً تحوي خبزاً إيرانياً شهياً ... وكؤوس جبن (بوك) الصغيرة ذات الأغطية الزرقاء .... السفرة تنتفخ بفعل الهواء الذي تثيره المروحة التي تدور في السقف مصدرةً صوتاً رتيباً خافتا ....
كان أول ما نقوم به هو تشغيل التلفاز رغم أننا نعلم أننا لن نشاهده ... فقد حرص كل منا على جلب كراسةٍ أو كتابٍ أو جهاز ألعاب الفيديو للمرح فقد كان الصباح وهدوءه لنا .... تأتي جدتي بعد حين بصحبة والدتي بعد أن قضتا بعض الوقت مع (العمة) أمي شيخه .. لتتفقدا طعام الفطور ولسؤوالنا عن ما نشتهي أن نأكله ... وقد تكون جدتي قد أعدت لنا (الخنفروش) أو (الرنقينه) لتملأ صباحنا بأشهى الأطباق الحلوة .... كما تحرص على إرسال إحدى الخادمات لشراء (السمبوسه) والتي كنا نفضلها بالجبن ... كان صباحنا شهياً ومشرقاً لا ينقصه الحماس للأحداث التي نعلم أنها ستقع وستكون مثيرة ومشوقة ....
رغم الخلافات التي كانت تحدث والمشاكسات التي نوبخ على القيام بها إلا أننا كنا نستمتع بذلك كله ....
كنا نطيل الجلوس حول سفرة الفطور وكنا نستمتع بتفرد عائلتنا بجدتي التي لا أنسى حكاياتها التي كانت ترويها لنا ... في الظهيرة كان جدي يجلس لتناول طعام الغداء وحده ... فغداءنا ينتظر قدوم أخوالي من أعمالهم ومشاغلهم ... كان الطعام يقدم لجدي على طاولته الخاصة في صالة الجلوس الرئيسية ... هناك يجلس ويأكل غداءه بينما يشاهد التلفاز ... وعندما نكون جالسين قربه نشاهد التلفاز معه ... كان يدعونا لتناول الطعام وكنا نرفض خشية التطفل على طعامه .... ولكن ذلك ما منعه قط من توزيع الفاكهة وسلطة الخضار علينا ... وكم كنت استمتع بذلك ...
كانت الاجتماعات الأسرية تحدث كل أثنين وخميس ... وفي عصر كل اثنين تنتشر رائحة البخور جاذبةً الجميع إلى مصدرها ... غرفة جدي وجدتي ... يجلس جدي على الأرض ماداً ساقيه ... والمدخن بجواره تتصاعد منه غيمات البخور الرصاصية .. وفي يده مسباحه وكتاب الأذكار أمامه ... ويذكر الله بصوتٍ مسموع ... وكلما دخل أحدٌ إلى الغرفة عرض عليهم كيس المسابيح ليأخذوا منها ويشاركوه التسبيح والتهليل ... كنا نأتي عادة (لتمسيد) ساقا جدي وأحياناً نشارك في جلسة الذكر هذه ... نختار أحد المسابيح ونأخذ كتاب ذكر ونجلس قبالة جدي بين أخوالي وخالاتي ... ويقود جدي جلسة الذكر بإختيار جمل الذكر وكلماته ... ونبدأ نحن بتكرارها مارين على حبات المسباح كلها ... وينتظر هو أن ننتهي فينتقل بنا إلى ذكرٍ غيره .... "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" ... وكلما انتقلنا إلى ذكر كان يخبرنا بفائدته والأجر الذي سنناله مستدلاً بحديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ... ثم يقرأ لنا جدي من كتاب الذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والدعاء ونحن منصتين ومؤمنين على دعاءه ... وما أن يفرغ من ذلك ينشد إنشودته المعتاده والتي بتُ أحفظها عن ظهر قلب "الله هو" ... وينشد معه من يحفظها ... كانت جلسة الذكر هذه رائعة تمكن جدي من خلالها على جمع أبناءه ليذكروا الله معاً .. كم أتمنى أن أحياها من جديد ...
بعد ذلك نجتمع مع بنات وأبناء خالاتي وأخوالي لنتفق على الذهاب إلى الدكان ... فنذهب معاً سيراً على الأقدام لنشتري الحلوى والعصائر بالمال الذي أخذناه من آبائنا وأمهاتنا ... رغم حر الصيف إلا أننا كنا نستمتع بهذه الرحلة ... كان كل منا يسير بصحبة من يماثله في السن من الأطفال ... وكنا نحن الفتيات نحرص دائما على السير معاً ... وعند العودة نقوم بمقارنة ما اشتريناه مع بعضنا ... ونقضي ساعات العصر الأخيرة بتناول ما اشتريناه مجتمعين معا في الغرفة الداخلية حيث يجلس الكبار وتدور بينهم الحوارات والأحاديث المختلفة مرتفعةً أصواتهم تارة إلى حد الصراخ ومنخفضةً تارة إلى حد الهمس ... من ما يجذب فضول الموجودين ...
لم نكن نتوقف عن اللعب معظم الوقت ... وكنا نتشارك في فعل كل شيء .. وكنا نقوم للصلاة معاً ... وتلك هي أكثر لحظات يومنا هدوءاً .. رغم بساطة كل ما كنا نقوم به إلا أنه ممتع إلى حدٍ بعيد ...
وفي الليل ننقسم إلى قسمين .. قسم معظم الكبار الذين يجلسون في الصالة الرئيسية مع جدي لتناول العشاء ... وقسم الفوضى والذي نكون فيه مع باقي الأطفال حيث نجلس في الغرفة الداخلية لتناول العشاء ...
كان لتك الأيام رائحةٌ خاصة وطعم خاص ... تزورني هذه الرائحة من وقت لآخر مشعلةً أجمل الذكريات في روحي فتوقظ الشوق والحنين لتلك التجمعات وتلك البساطة ...
غريبةٌ هي حاجة الإنسان للجد والجدة ... حنانهما مختلف عن الوالدين ... كيف يشتاقون لنا ونشتاق لهم ... وكيف نُبعَدُ عن قرارات صحتهما ...
مازلت أتذكر ذلك الموقف المضحك والغريب الذي تعرضت له وكانت البطولة لجدي ... كان يوم مرح قد أعلن نهايته بغروب شمسه ... قضيناه سباحةً ولعباً وصراخاً ... وعند جمعنا حاجياتنا والعودة إلى البيت قررت المبيت في بيت خالي بناءً على طلب ابنته ... كنت منهكة بعد السباحة واللعب منذ الصباح ... وكل ما أرته هو تناول العشاء والخلود إلى النوم ... كانت ليلة قاسية بالنسبة لي فقد كان النعاس يغالبني ... بينما اضررنا للخروج من البيت ليلاً لسبب ٍ لا أذكره الآن ... ثم عدنا وأكلنا عشاءً خفيفاً للغاية ثم خلدنا إلى النوم ... نمت على فراشٍ فرش لي على الأرض بين سريرا ابن وابنة خالي ... لم تخلو تلك الليلة من الأحلام المخيفة والتقلبات المزعجة التي قضّت مضجعي ...
في صباح اليوم التالي استيقظت باكراً على ألم الجوع ... فلم يكن ما أكلته بالأمس كافياً ... كان الجميع نيام ... ولم أكن لأتجرأ وأخرج من الغرفة وأتجول في بيتهم ... انتظرت وانتظرت طويلاً ... لم تكن لدي ساعة أعرف منها الوقت ... ولسببٍ ماتسلل الخوف إلى نفسي .. وطال انتظاري ... كنت أنظر إلى ابنا خالي النائمان ... وأتمنى أن يستيقظ أيٌ منهما ليخلصني من سجن انتظاري الطويل ... ولكن دون جدوى ... كانت ابنة خالي تستيقظ بين الحين والآخر لتخبرني كم طال نومها وكم هي مستمتعة بالنوم ... لتعود إليه وأبقى أنا وحدي ... كنت خائفة وجائعة إلى حد بعيد ... فبدأت أبكي .. كنت طفلة صغيرة معدمة الحيلة ... وكل ما أردته حينها هو أن أعود إلى أمي ... وبعد وقت استيقظ ابن خالي ... وشاركني الجلوس ... حاول التخفيف عني بلعب لعبة المونوبولي ... وكانت تلك هي المرة الأولى التي أتعرف فيها على هذه اللعبة ... لعبت معه زمناً ... ولكن الحياة أبت أن تدب في البيت رغم طول الوقت الذي انقضى ... عدت للبكاء ولم يجد ابن خالي ما يفعله ليساعدني ... أخبرته أني أريد أن أعود إلى البيت ... وكنت أعني بيت جدي حيث نقيم في سفرنا في كل إجازة ... لم يكن يستطيع أن يفعل لي أي شيء فقد كنا صغاراً ... استمر بكائي وقلة حيلتي ... حتى أخبرته أني أريد أن أكلم أمي ... ولم أكن أعرف رقم هاتف بيت جدي ... فسألني :"ء تريدين أن أتصل بهم؟" فأنار لي بصيص أمل بسؤاله فقلت: "ء تعرف رقم هاتفهم؟" وقال:"نعم" ... فقلت: "نعم اتصل سأكلم أمي" .. وفعلا خرجنا من غرفة النوم وذهبنا إلى الصالة حيث كان الهاتف موجوداً على الرفوف العليا من الخزانة ... ركبنا على الكرسي معاً وأعطاني سماعة الهاتف وضغط الأرقام ... كنت متوترة جداً فأنا لا أعرف كيف أتحدث في الهاتف ... رن الهاتف عدة مرات وفجأة انقطع الرنين وجاء صوت زوجة خالي الآخر ... فبادرت قائلة: "أريد أن أكلم أمي" فقالت: "من أمك؟" ... تعجبت من سؤالها ولم يكن قد خطر في ذهني أن الشخص الذي سيرد علي قد لا يعرفني ... فترددت ثم قلت: "أمي فاطمة ... أنا وضحى" ثم سمعت صوت خشخشة ... وبعد لحظات جاء صوت أمي عبر الهاتف: "ألو!" ... فبكيت وقلت: "أمي ... أريد العودة إلى البيت!" فسألتني: "ما بك؟ ... لماذا تبكين؟" ... كنت أمسك سماعة الهاتف الكبيرة بيد وأمسح الدموع من عيناي بيدي الأخرى وأنا أردد: "أريد العودة إلى البيت ... أمي ... أريد العودة إلى البيت" ...كان انفعال أمي واضحاً إذ قالت: "وضوح .. من عندي إييبج من بيت خالج الحين؟!" وسكتت برهة  وأنا مستمرة في البكاء ثم قالت:"أنتي أردتي النوم عندهم ... أين خالك وزوجته؟" فقلت من بين شهقات بكائي: "كلهم نائمون!" وقالت أمي: "لا حول ولا قوة إلا بالله ... ابقي عندهم ليس لدي أحد يأتي ليأخذك!" فلم تكن أمي تملك رخصة قيادة ... انتهت المكالمة على هذا ... فجلست أبكي بعد أن أعدت سماعة الهاتف إلى مكانها ... انطفأ بصيص الأمل الوحيد وعدت مع ابن خالي إلى غرفة نومهم ... جلست هناك بيأس وبطني يستغيث من الجوع ... ومر وقت طويل ونحن نلعب المونوبولي وقد غادر الأمل روحي ... لم أكن مستمتعة باللعبة كنت ألعب لأني لا أجد شيئاً آخر أفعله ... وكان ابن خالي يواسيني بلعبه معي ... وفجأة رن جرس الباب وقام ابن خالي إليه ... بينما تبعته بتردد ... فتح ابن خالي الباب فإذا بجدي واقفٌ خلفه والغضب يكسو وجهه ... كنت سعيدة برؤيته ... شعرت بالحياة تعود إلى روحي ... كان جدي غاضباً وهو يسأل ابن خالي عن والدته والذي أخبره أنها في غرفتها ... لم أكترث لكل ما قيل من فرط سعادتي ... قال جدي شيئاً بخصوص ترك الأطفال جياع حتى الظهيرة ولكني لم أبالي ... أمرني أخيرا أن أذهب معه ... فجريت باتجاهه وركبت معه سيارته (المرسيدس الأبيض) وأطمأننت أكثر عندما وجدت أمي في السيارة ... انطلق جدي بنا إلى البيت وقد حذر أمي من السماح لنا بالنوم خارج البيت مرةً أخرى ... كانت أمي غاضبة مني .. ولكني كنت سعيدة برؤيتها وجلوسي بجوارها ... فقد زال شعوري بالخوف والجوع ... وكنت فقط سعيدة وآمنة ... وصلنا إلى البيت وجلست بين أخوتي وأنا أعد نفسي أن لا أذهب إلى أي مكان دونهم ثانيةً ... كان الجميع غاضبون مني رغم أني قصصت عليهم ما حدث ووجدوا أن انعدام الطعام طوال الصباح وحتى الظهيرة كان خطأً فادحاً في حق الأطفال ... بالرغم من ذلك استمر غضبهم مني ... حتى خالي كان غاضبا من الطريقة التي غادرت فيها منزله ... ولكني لم أكترث لمشاعرهم كلهم ... وكل ما كان يهمني هو أنني أصبحت قريبة من أمي ... بعدها أصبحت أفتخر ببطولة جدي الذي ما أن عرف باتصالي وبكائي حتى غضب وأمر أمي أن ترافقه ليهرع إلي ...
بعد هذا الموقف أصبح جدي هو بطلي الذي أنقذني !
وكانت أمي تفتخر وتردد هذا الموقف ضاربة المثل بجدي في حبه لأحفاده.
كان هذا الرجل هو الجد الحقيقي الوحيد الذي عرفته في حياتي ولم أجد له مثيل أبداً
تلك الأيام كانت من أجمل أيام حياتي ومعظم ذكرياتي فيها تدفعني للابتسام والضحك ... كم أتمنى أن أعود إليها ولو ساعة لأجددها في نفسي وذاكرتي ... ولأثلج صدري برؤية جدي وجدتي ولو لمرة واحدة...
رحمكما الله يا جدي وجدتي وجمعني بكما في جناته ... اللهم آمين