الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

لطالما آلمني




كيف أنقل الإحساس إلى الورق ... كيف أجعله في صدور الآخرين ولو لحظة ليفهموا ما أتحدث عنه ... بدا ذلك صعباً وبعيد المنال ... رغم أنني كتبت كل كلمة وصفٍ تبادرت إلى ذهني دون تشذيب أو تهذيب ... وندمت بعدها مباشرةً إذ لم يكترث أحدٌ بالتوقف لحظة لتأمل كلماتي ... وأكاد أعتاد على ذلك ... والشخص المعني غائب ... كم أكرهك إيتها التكنولوجيا ... يا من دمرتي البساطة وجمالها ... وسهلتِ الصعوبات فقتلتي مُرَّ لسعاتها اللذيذة ...

 

صباح اليوم جاءتني إحدى تلك اللحظات الأكثر أسراً وسحراً ... فتحدث فيها معجزة الطيران عبر الوقت والزمان مُغيبة ً اللحظة الحالية في الظلام ولاغيةً وجودها للحظات قصيرة آسرة ... وكأنها تريد إحياء شيء مات أو يكاد يموت ... ولكنه بالتأكيد شيءٌ منسي ...

 

تأتي هذه اللحظة دون سابق إنذار ... مشعلة صورة من ذكريات الماضي المنسي ... تلمع الصورة أمام العينين للحظة لتجذب الانتباه ... فيكون القرار لك .. إما أن تستلم لها أم تشيح بطرفك عنها ... فإن استسلمت ... انتشلتك من حيث كنت وراحت بك إلى زمان تلك الصورة محييةً فيك كل تفاصيلها ... فتلفح وجهك نسمات ذلك اليوم ويملأ أنفك عبق المكان ورائحة الطعام والقهوة التي كنت تحتسيها ... تشعر حينها أنك عدت إلى ذلك اليوم وكل شيء بعده كان مجرد حلم لم يحدث منه شيء ... وعندما تحتويك الذكرى وتتشربها روحك ... تتلاشى .. وينقشع الظلام ... فإذا بك ترى وجهك الحزين والمذهول في المرآة ... حيث كنت تقف قبل أن يصيبك سحر تلك اللحظة ... وها أنت تمد يدك بعد الجمود محاولاً الإمساك بتلك الذكرى ... ولكن أنى لك وقد تبخرت في الهواء ... حينها تنظر إلى نفسك وأنت تدافع عبراتك وقد فقدت ما كنت تظنه بسيطاً ولكنه كان سعادة حياتك كلها !

تبدو لي هذه اللحظات كبوابةٍ إن تمكنت من القفز عبرها ... ستنقلني إلى العالم الذي لطالما حلمت به ... إلى عالم يعجز اللسان عن وصفه ... إلى عالم بعيد عن الواقع وقبحه وآلامه ... ولكن كل ما رأيت لمحةً من تلك البوابة يتجمد حتى الدم في عروقي ... فلا أملك الحراك حتى في جفنا عيناي ... وينتابني رعبٌ ممتزج بفرحة صغيرة مؤقتة ... تُنتَزَعُ مني بغياب البوابة تاركةً دموعاً يتيمة وجسداً منزوع الفؤاد ...

 

أطأطئ رأسي للحظة ثم أعود لنشر مسحوق التجميل على خدي متظاهرةً بأن شيئاً لم يكن وأن روتين الحياة مازال ملكاً على رؤوسنا ... ولكني لا أنفك أسحب المنديل تلو الآخر لبقية اليوم ... وإن سئلت ... ألقيت اللوم على غبار الجو أو زكامٍ وشيك...

 

لطالما آلمني أن أحداً لا يفهم هذا الإحساس ... وأن علينا أن نواصل التجاهل وتكبير العقول فقط لأننا نعتبر راشدون ... ولأن مسؤولياتنا تتضاعف بمرور كل يوم جديد في حياتنا ...

أحياناً ... أتمنى لو أني لم أتغرب من أجل ورقة ... ففقدت نفسي ثمناً لها ...

سأعدُ نفسي ... كما فعلت في المرة السابقة ... "سأقفز في المرة المقبلة !"

الخميس، 14 أغسطس 2014

عصفور




هبط العصفور الصغير على الأرض بين الحشائش فاغراً منقاره وتلفت في كل الاتجاهات باحثاً عن لمعان قطرة ماء تنقذ جسده الصغير من سياط الشمس الحارقة ... ثم راح ينقر الأرض بمنقاره هنا وهناك ... كما كان حال عدة عصافير صغيرة أخرى ... كانت الحشائش قصيرة للغاية بالكاد تستر أرجل العصافير الصغيرة ... باستثناء بعض أوراق الحشائش الرفيعة التي تمردت وطالت رقابها فوق باقي أوراق الحشائش متفوقةً عليها ... ورغم الحرارة الشديدة إلا أن هذه الأوراق من الحشائش ساعدها تمردها على الحفاظ على لونها الأخضر الغني على عكس باقي الحشائش التي اكتفت بأن تكون خضراء اللون وإن كان قد أصاب لونها شيئاً من البهوت ... اجتمعت أربعة عصافير عند البقعة التي تكثر فيها الحشائش المتمردة ... فلونها الغني اللامع في ضوء الشمس أعطاها أملاً بإمكانية القضاء على العطش رغم السياط الحارقة ... فراحت تنقر بمناقيرها الصغيرة حولها بحثاً عن الخير الذي تمتلكه هذه الحشائش فتنال شيئاً منه ... كانت العصافير تأمل أن تروي نفسها من رطوبة قد تجدها في التربة ...

 

أملت لو كانت في سيارتي قنينة ماء أسكب بعضها لهذه العصافير فترتوي وتدوم خضرة الحشائش ... أضاء اللون الأخضر في إشارة المرور وزمجرت السيارات ... فأدرت رأسي عن تلك البقعة الخضراء وعن العصافير القافزة منطلقةً بسيارتي ...

 

وقف النور عند الرصيف يتأمل سيارتي الراحلة بعد أن ترجل منها خفية ... ثم مشى بهدوء إلى البقعة الخضراء ولم تعره العصافير أي اهتمام ... ثم رفع يده اليمنى ناظراً إليها وكأنه يحمل شيئاً فيها ... جلس القرفصاء ... وأنزل يده إلى الأرض واضعاً ما كان فيها ... فإذا بإناء ينضح بالماء يظهر لامعاً مع تمايل صفحة الماء تحت أشعة الشمس ... فتقافزت العصافير إليه مغرقةً مناقيرها الصغيرة فيه ... فابتسم النور ... ثم رفعت العصافير رؤوسها إلى السماء مبتلعةً الماء الذي حملته في مناقيرها وكأنها تحمد الله على هذه النعمة التي أنقذتها ... وراحت تغرد وتتدافع لتشرب أكثر قافرةً هنا وهناك ... وانسكب الماء بفعل قفزاتها ... لتحني الحشائش رؤوسها وتمد جذورها إلى الماء مرتويةً منه ... فيزداد لمعانها وغنى خضرتها ... رفع النور رأسه ناظراً إلى حيث انطلقت سيارتي وابتسم...

 

ابتسمت وأنا أطفئ سيارتي وأترجل منها .. متمنيةً لو تتحقق الأحلام !


الأربعاء، 13 أغسطس 2014

تلك الأنا




أعلم أننا جميعا نعلم هذا وأننا جميعا نمر به ... أو هكذا شكلت لي اعتقاداتي ... هل يمكن أنهم لا يعرفون ما أتحدث عنه ؟ .. ولكن هل هذا مهم على أية حال؟ .. لم أعد أدري !

 

كم تقلبت أحوالي وكم تقلبت معها .. كم علوت وابتسامة الحياة تملأ روحي .. وكم هويت وطنين الارتطام يعصف بعقلي وجوارحي .. وها أنا مازلت هنا ! .... ولكن إن إلتقيت بإحدى الأنا التي كنتها فلن نعرف بعضنا .. وستستنكرني دون شك !

 

إحدى تلك الأنا ... تكثر من مراودتي هذه الأيام .. ولولا انشغالاتي الكثيرة والمطالب المُشَتِتة لاستجبت لها ولجرفت بها ... قد لا تعرفني هي إن إلتقينا لكني باكيةٌ لا محالة ... كلما راودتني تزلزل ثباتي ... وتجري قشعريرة في جسدي ويكثر سرحان عيناي ...

أنا لا أحب هذا ... من منا يحب ارتجاف الأرض تحت قدميه !؟ ... ولكن من منا لا يخفي شوقه لغزارة أمطارٍ تعيق حركة السير ليوم واحد؟

لم تكن تلك الأنا مثالية على الإطلاق .. كانت تائهة وحائرة .. وتبحث طوال الوقت ... تبحث ... ولم تكن التوافه تلفت انتباهها ... ما يعجبني فيها أنها كانت تسعى ... ولا تكترث بالفضوليين ... كانت تتمتع بعزيمة وإصرار ... يزيد من صلابتهما عنادها الذي عادةً ما يكون غير مبرر ... كانت ميالة للمغامرة فتلقي بنفسها دون أن تلتفت لأي دراسات أولية أو تجارب سابقة ... كانت تتحرك صحيح أنها لم تكن تسابق الريح ولكنها كانت تهرول ومستعدة للجري إن وجدت الفرصة .. وأجمل ما فيها أنها لم تكن تقف على الأرض بكامل قدميها ... بل كانت تلمسها لمساً بأحد أصابع قدمها ...

أكاد أعود إليها فأندمج مع روحها وزمانها !

 

كم أفتقد الطيران ... ويفجر آهاتي ضياع طريقه مني .. وكم يمزق روحي إلتصاقي السهل بالأرض ... تشابكت الخيوط في يدي وأكاد أيأس من فكها ...

ملت النافذة تحديقي الطويل بزجاجها وباتت تحلم بقدمين تهرب بهما ... ولكنها حبيسة خلو وجهي وصمت عيناي!